مقدمة القصة :
في يوم الخميس 17 مارس 2011 كانت زيارة الدكتور عصام شرف لوزارة الداخلية، ليكرم ضباط الوزارة على الجهد الذي بذلوه لاستعادة الآثار المسروقة من المتحف المصري، والقبض على اللصوص .
مشهد مهيب يحرك المشاعر، ويهز القلوب، رئيس الوزراء يكرم ضباط شرطة الآثار والسياحة لدورهم البطولي، الجميع سعيد، الجميع فخور ببطولة رجال مصر، شاشات التليفزيون تبث هذا المشهد العظيم لكن أين محمد عبد الرحمن ؟
محمد عبد الرحمن في منزل أحد الأصدقاء هارباً من منزلة مخافة بطش أهالي المجرمين به لا أحد يعرف عنه شيئا ، لا أحد يشعر بخفقات قلبه المرتعد , فغالباً ما يلعب دور البطولة أشخاص , ويكرم على عظمة الدور آخرين ، إلا أن البطل الحقيقي لا يُكرم لأنه يحظى بلقب " مسئول حكومي كبير "
نُشرت القصة الحقيقية بجريدة اليوم السابع تحت عنوان " القصة الحقيقية لعودة الآثار المسروقة من المتحف المصري.. مفتش آثار شاب تنكر في شخصية تاجر آثار وعاش في رعب لمدة 14 يوماً ليعيد 12 تحفة فرعونية نادرة " كما نشرها موقع " مصرس " تحت عنوان " قصة الشاب الذي أعاد الآثار المسروقة من المتحف المصري "
بالتأكيد لا نعرف شيئا عن حياة والد محمد عبد الرحمن، لكن محمد بلا شك ابن أجيال من الأثريين أمضوا حياتهم في البحث عن آثار وتراث مصر فبدده آخرون , وأضاعوا تراث مصر وعناء هؤلاء الجنود المجهولين
" المساخيط "
كان يوم جمعة الغضب يوم عصيب دام ، ارتفع فيه صوت الثوار وارتفع سقف مطالبهم لدرجة لم تخطر على بال الكثيرين ، فمن كان يتخيل أن شباب مصر يطالب بإسقاط النظام ، نظام ذو صولجان يأمر فيطاع ، ومن كان يملك القدرة لكي يسير بجوار أسوار قصر الرئاسة حتى يتجرأ ويطالب بإسقاط الرئيس ذاته .
الآن خرج الشعب عن صمته , وبات النظام يترنح بسقوط أول قطرة دماء من الشباب الثائر ، بسقوط أول ضحية منهم ، الجميع يتطلع لمصر جديدة حرة عظيمة شامخة , يضاهى عظمة حاضرها ومستقبلها عظمة ماضيها البعيد .
في إحدى شركات السياحة المقابلة لمتحف الآثار المصرية جلس الشاب " محمد عبد الرحمن توفيق " ، الشاب المصري الأصيل ، يُطل من نافذته على المتحف المصري ، يتابع في قلق شديد ما يحدث في مصر ، لكنه يتابع بقلق أكبر ما يحدث بالمتحف المصري ، خاصة بعد انسحاب الشرطة وحراس المتحف , وتركه بلا حراسة .
دقات قلوب المصريين كانت مرتعدة خوفاً وقلقاً على المستقبل ، أما قلب " محمد " كان مرتعداً قلقاً على الماضي أكثر من المستقبل ، الماضي العظيم الذي ارتبط به " محمد عبد الرحمن " من خلال عمله " كمفتش آثار " بالمجلس الأعلى للآثار صباحا ُ، مهمته الحفاظ على الآثار من التعديات والسرقة ، والاشتراك في أعمال الحفر للتنقيب عن الآثار وتوثيقها بالمجلس ، أما في المساء فهو يتغلب على أعباء المعيشة بعمله الخاص كموظف بشركة السياحة التي تقع في مبنى مقابل للمتحف المصري ، يقوم بدورة في جذب السياحة الأجنبية لمشاهدة عظمة هذا الماضي وآثاره التي لا تُقدر بثمن ، نعم " محمد " شاب يعرف جيداً قيمة كل قطعة أثرية موجودة داخل هذا المتحف ، لقد طُبعت كل قطعة داخل عقله وقلبه ، يعرف تاريخها ، تعرف عينه وأنامله تفاصيلها ، وبحجم معرفته وإدراكه لقيمة تلك الآثار كان قلقه على هذا التراث العظيم الذي يقف وسط الأحداث مكشوف الظهر ، خاوي اليدين ، أعزل في متناول المارة واللصوص .
وبالفعل حدث ما كان يخشاه محمد ، لقد اقتحم اللصوص والبلطجية أعظم متحف في العالم بل في التاريخ بأسره , ليحملوا منه أنفس وأعظم ما به من قطع أثرية ، وقتها فقط تذكر " محمد " والده المصري الصعيدي الأصيل الذي قضى عمره في جولات التنقيب عن الآثار والمقابر الفرعونية ، يعرف تاريخ كل مقبرة وما تحمله من كنوز ، رافق في رحلة عمره أعظم علماء ومكتشفي الآثار من المصريين والأجانب ، وتوفي عقب اكتشاف أثري لمقبرة فرعونية ، قيل بعدها أن لعنة الفراعنة أصابته ، والحقيقة أنه أصر أن يكون أول من يدخل لتلك المقبرة المغلقة من آلاف السنين ، كان هذا الهواء الذي أستنشقه عند دخوله هو سبب وفاته ، فغلق المقبرة آلاف السنين يؤدي لفساد الهواء بداخلها وقد يودى بحياة أول من يدخلها ويستنشق هذا الهواء الفاسد ، وفق ما ذكر الأطباء عن تفسير أسباب الوفاة , فكيف يُفرط " محمد " فيما دفع والده حياته من أجله ، هكذا اندفع " محمد " تاركاً مكتبه بالشركة يقفز سلالم المبنى قفزا ً، يعبر ميدان التحرير حتى يصل إلى باب المتحف ليحاول إيقاف هؤلاء اللصوص والبلطجية ليثنيهم عن اقتحامه ، لم يكن " محمد " الوحيد في تلك اللحظة الذي يحاول دفع اللصوص ، بل وجد شبابا جامعيا مخلصا محبا لتراث مصر ، لكن مع الأسف غلبت قوة اللصوص المُسلحين قوة " محمد " وغيره من الشباب الطاهر النقي .
وبالفعل اقتحم اللصوص المتحف ، نهبوا ، حطمو ا، كسروا ، حتى الجماجم المُعدة للبحث العلمي ألقوها وحطموها ، فقد اغتنموا ما خف حمله وغلا ثمنه ، كسروا خزائن العرض الزجاجية ، حطموا عددا من التماثيل ، والشباب بالخارج يحاول الاستنجاد بالجيش , وجمع أكبر عدد لعمل حائط بشري ، وحينما أزداد العدد فر اللصوص من الأبواب الخلفية بما استطاعوا أن يغتنموه من خيرات التراث ، بعد أن خافوا أن تغلبهم كثرة عدد الشباب الذين تجمعوا بالخارج يريدون الفتك بهم .
عاد " محمد " بعد أن أقام الشباب المصري الحر الشريف حائطا بشريا حول المتحف بأكمله ، وحضرت قوة من الجيش تسلمت المتحف من الشباب ، وقد لاذ اللصوص بالفرار بعد أعمال السرقة والتحطيم .
عاد " محمد " وقلبه يتألم حسرة وحزنا على تراث مصر ، وعلى وفاة والده ، كيف يدفع والده حياته مقابل كشف أثري ويأتي لص يسرقه بهذه السهولة ، وتصبح الآثار كدمية ملقاة في الطرقات تعبث بها الأيدي والأرجل
مضت أيام وسمع " محمد " رنين هاتفه المحمول ، أنه اتصال من صديقه " عاطف "، كان " محمد " يتخيل أن الاتصال للاطمئنان علي أحواله في هذه الأيام التي يحصد فيها الموت زهرة شباب مصر ، لكن الحقيقة تأتى على غير توقعه , فقد طلب " عاطف " مقابلة " محمد " في مقهى قريب من الشركة لأمر هام وعاجل ، فذهب " محمد " لمقابلته .
عاطف : احنا طول عمرنا أصحاب واخوات ، وأنا عاوزك في مصلحة ، لو تمت هيبقى فيها خير كتير قوي
ثم أخرج " عاطف " تليفونه المحمول وقام بتشغيل " فيديو " لمجموعة آثار مكونة من تماثيل أثرية , وتمائم , وقلادات , وعرض الفيديو أمام " محمد "
محمد : جبت الحاجات دى منين ؟
عاطف : الحاجات دى موجودة عندي ، وعاوزين نتصرف فيها
محمد : الآثار دى تقليد مش أصلي ، كانت موجودة في بيت الهدايا و بيشتريها السواح
عاطف : تقليد مين يا راجل يا طيب , دى الحاجات اللي كانت في المتحف نفسه آثار أصلى ، إيه يا عم أومال لو ماكنتش مفتش آثار ودايس في الليلة ، هي ولا مش هي
محمد : صح هي
عاطف : يعني عارفها كويس ؟
محمد : أكيد طبعاً , إلا عارفها
عاطف : دى حاجات منها ، وعاوزين نشوف لها صرفة
محمد : لأ ... حرام عليك إحنا لازم نحافظ على آثار بلدنا
عاطف : خلاص كبر دماغك يا عم ، ولا انا شفتك , ولا انت سمعت مني حاجة
محمد : طيب ممكن تبعتلي الفيديو ده بلوتوث
عاطف : حاضر على العموم , الفيديو معاك , وفكر واحسبها كويس , وعلى العموم انت أولى بالمصلحة دى من الغريب
وبالفعل حصل " محمد " على مقطع الفيديو الخاص بالقطع الأثرية المسروقة ، ثم تركه صديقه وانصرف ، وظل " محمد " في حيرة هل يصمت وتضيع آثار مصر ، كلا مستحيل ، لكن كيف يتصرف هل يبلغ الشرطة عن صديق ، لكن ربما علم صديقه ولاذ بالفرار وضاعت الآثار ، كان أكثر ما يؤلم " محمد " هو صدمته في صديقه ، فكيف بعد هذه السنين يكتشف أنه صديق لص خائن يبيع آثار وطنه بأبخس الأثمان ، بل كيف يُصور له عقله أن يكون شريكا له في هذه الجريمة ، لكن ربما لحسن حظ مصر المحروسة أن يتوقع " عاطف " أن يشاركه " محمد " تلك الخيانة لكي تكون هناك فرصة لاستعادة هذه القطع مرة أخرى .
وبعد تفكير قرر " محمد " أن يذهب في الصباح الباكر إلى مقر المجلس الأعلى للآثار بالعباسية لمقابلة " الدكتور رمضان البدري "، مدير إدارة التوثيق الأثري ، ليستشيره في الأمر ربما يجد عنده ما يريح ضميره , و يمكنهم من استعادة الآثار المسروقة ، وكان اقتراح " الدكتور البدري " هو أن يذهبا إلى " طارق العوضي " مدير المتحف المصري ليعرضا عليه الأمر ويطلبا مساعدته .
وصل " محمد عبد الرحمن " "ورمضان البدري " إلى مكتب مدير المتحف المصري وأخبروه بالأمر، وعرضا له فيديو القطع المسروقة ليطابقوا هذه القطع ببيانات وصور القطع المسروقة بالفعل ، فتأكدوا من تطابق القط ، وهنا كان رأى " العوضي " أنه لا مفر من اللجوء إلى شرطة الآثار واتخاذ الطريق القانوني .
وبالفعل توجهوا جميعاً إلى مكتب شرطة الآثار الملحق بالمتحف ، وأبلغوا قيادات الشرطة بالأمر ، وهنا دار حوار بين " محمد " وبين أفراد الشرطة .
الضابط أنور : سأل " محمدا "باستهتار : عاوز كام علشان ترجع الآثار دى؟
محمد : بعد أن ظهر علي وجهه علامات الغضب أنا مفتش آثار مش تاجر , و عاوز أرجع الآثار دى ، ومش عاوز منكم حاجة غير أنكم تساعدوني في كشف العصابة والقبض عليهم ، وتأمنوني
الضابط أنور : إنت زعلت ليه أنا مش قصدي، بس من كام يوم اتصل بينا ناس وقالوا عندهم معلومات عن الآثار وعاوزين فلوس علشان يساعدونا بالمعلومات ,. طيب قولي هي الحاجات دى أصلية ؟ "
محمد : أيوه
الضابط أنور لمدير المتحف : القطع دى مطابقة للقطع المسروقة من المتحف
طارق العوضي : أيوه
الضابط أنور لمحمد : هات صاحبك هنا
الضابط شريف : لأ إحنا لازم نعمل خطة ، ثم وجه كلامه لمحمد : أنت عندك استعداد تغامر
محمد : أيوه
الضابط شريف : خلاص أنت هتقول لصاحبك أنك فكرت وقررت أنك تمشى في الموضوع ده
كان " شريف " من أكفأ الضباط وأكثرهم ذكاء ، أدرك أن طبيعة " محمد " النقية قد تكون سبب فشل تلك الخطة أمام اللصوص, لذلك أخذ يشرح لمحمد ويصف له شخصية تجار الآثار وطريقة حديثهم والألفاظ التي يستخدموها .
الضابط شريف : " محمد " اعرف إن الناس دى جشعة لأبعد مدى ، همهم الأول هو الدولار ، استغلاليين ، اللى بيساعدوهم بيطلبوا نسبة كبيرة ممكن توصل لثلث المبلغ زى ما انت هتطلب منهم ، ودلوقتي امسك تليفونك واطلب " عاطف " خليه يجيلك حالا في القهوة اللي اتقابلتوا فيها قبل كده في التحرير , وقوله إنك فكرت وعايز تطلع بقرشين كويسين من المصلحة دى , وطبعا انت مش هتشتري سمك في ميه , أطلب تشوف القطع الأثرية عشان نتأكد إنها القطع الأصلية وكمان عشان يصدقوك .
محمد : " شريف بيه " أنا موافق لكن بشرط عدم ذكر إسمي في أي محضر رسمي ، وإن الخطة أكون فيها بعيد تماماً عن الموضوع ده علشان المجرمين دول ما يعرفوش إنى ساعدت في القبض عليهم ، وحياتي تبقى في خطر .
الضابط شريف : ماشى يا " محمد " موافقين
أمسك " محمد " هاتفه المحمول واتصل بصديقه " عاطف "
محمد : أيوه يا " عاطف " بقولك إيه أنا فكرت في المصلحة اللي كلمتني عنها وعايز اطلع منها بقرشين حلوين بدل الفقر اللي الواحد عايش فيه بس أسمع تعالى لي في القهوة اللي جنبنا في التحرير لأني منفض على الآخر مفيش في جيبي إلا جنيه واحد علشان يا دوب اركب به المترو واروح .... أيوه نفس القهوة اللي اتقابلنا فيها المرة اللي فاتت مستنيك
بعد الاتصال ذهب " محمد " لانتظار صديقه على المقهى وحضر عاطف وبدأ معه الحديث
عاطف : " محمد " أنا زعلان منك جداً علشان أنت صغرتني وطلعتني عيل قدام الناس
محمد : والله انت ابن حلال ، بصراحة أنا فكرت في الموضوع ولقيت أنها خبطة العمر ، وانا عاوز أشوف البضاعة ، وبعون الله هجيب المشتري
عاطف : يعنى أنت عندك خبرة في المواضيع دى
محمد : طبعا، أنا مشيت في الموضوع ده ييجي خمس مرات قبل كده
عاطف : بص يا " محمد " لو فيه خطورة من الموضوع بلاش منه
محمد : بلاش منه إيه الموضوع مش تهريج ، وبعدين هتعمل إيه بالآثار اللي معاك
عاطف : يكش نكسرها
محمد : تكسر إيه كسر دماغك , أنت عارف التماثيل دى بكام
أخرج عاطف تيلفونه المحمول واتصل بشخص أسمه " أحمد " وقال له : أنا جاي في الطريق مع " محمد عبد الرحمن "، جهز الحاجة علشان يشوفها
استقل " محمد وعاطف " معاً مترو الأنفاق من محطة " أنور السادات " حتى محطة " دار السلام "، خرجا من المحطة إلى شوارع دار السلام ، خمس وأربعون دقيقة مضت وهم يتجولون في شوارع جانبية ضيقة ، ومن شارع إلى حارة , ومن حارة لأخرى , حتى وصلوا إلى مناطق عشوائية تبدوا كأنها حظائر للماشية ، وأمام منزل قديم مبنى بالطوب الأحمر توقف " عاطف " ، ودعا " محمد " للجلوس على مقهى أمام البيت ، ثم اتصل " عاطف بأحمد "وقال له : إحنا وصلنا ، فحضر " أحمد "ومعه شخص آخر اسمه " عماد " .
محمد : فين المصلحة
أحمد : الحاجة مش هنا ، دى في مصر القديمة , عند واحد اسمه "عرفة أمين " شريكنا , وهو راجل قتال قتله ، مسجل خطر وبلطجى درجة أولى .
محمد : أنا مبتهددش ، انتو هتخلصوا , والا هتلعبوا
أحمد : بص إحنا هنروح نجيب الحاجة دلوقتي من مصر القديمة ونيجي
ذهب " أحمد " مع صديقه وبقى " محمد وعاطف " بالمقهى في انتظارهما حتى يحضرا الآثار المسروقة من مخبأها في مصر القديمة ، مضى عشر دقائق ثم عاد بعدها " أحمد " ليخبرهما بوصول القطع الأثرية ، وقتها فقط تأكد " محمد " أن الآثار المسروقة لم تخرج من " دار السلام " , لأن المسافة بين ط دار السلام " و" مصر القديمة " خمسة عشرة دقيقة على الأقل، بمقدار ثلاثين0 دقيقة ذهاباً وعودة ، وعشر دقائق ليحضر الآثار، إذن هو بحاجة لأربعين دقيقة على الأقل , فلا يمكن أن يذهب " أحمد " لمصر القديمة ويعود في عشر دقائق فقط .
دخل " محمد " وصديقه " عاطف " مع " أحمد " وصديقه إلى البيت المقابل للمقهى ، والذي سبق أن توقف أمامه " عاطف "، بيت قديم يبدو أنه بيت مهجور مبنى بالطوب الأحمر، وهنا سألهم " محمد " إيه البيت ده، فقال له " أحمد " ده البيت اللي فيه" المساخيط "، شعر " محمد " وقتها أن ذاكرته تدخل في نفق مظلم لا يختلف عن ظلمة مدخل هذا البيت ، عادت ذاكرته لسنوات بعيدة عندما كان في السنوات الأولى من عمر ه، كان يومها مع والده في العمل أثناء التنقيب عن إحدى المقابر ، في ذلك اليوم أقترب منه رجل صعيدي وأعطاه قطعة من الشيكولاتة وسأله ماذا يفعل والدك ومن معه ، فسمع صوت والده يناديه بكل قوة تعالى هنا يا " محمد "، وعندما عاد لوالده سأله عن من أعطاه الشيكولاتة فأشار إلى الرجل الصعيدي فقال له والده : يا " محمد " يا ولدى إياك تكلمه مرة تانية أو تقوله على حاجة دول تجار " مساخيط "، فسأله محمد يعني إيه " مساخيط " يا بوي فقال له والده يعنى تماثيل الفراعنة، تجار " المساخيط " بيسرقوا آثار البلد ويبعوها للخواجات , دول مجرمين يا ولدي ابعد عنهم , ممكن يخطفوك علشان يساوموني واسرق لهم الآثار , ومش بعيد يقتلوك ويقتلوا أي حد يقف في طريقهم دول مجرمين يا ولدى ما لناش صالح بيهم .
كانت هذه المرة الأولى التي سمع فيها " محمد " كلمة "مساخيط "، لكن القدر بعد هذه السنين وضع " محمدا " في مواجهة هؤلاء اللصوص المجرمين .
دخل معهم " محمد " إلى البيت القديم ثم قاموا بغلق الأبواب ، وصعدوا حتى الطابق الثالث ، جلسوا في غرفة كانت هي نفس الغرفة الموجودة بالفيديو ، إنه دليل آخر على أن القطع الأثرية في هذا البيت لم تخرج منه ، وقتها فقط شعر " محمد "بالخوف من أن تقتله العصابة ، لكن كان عليه أن يتماسك ويُكمل خطته ، نظر " محمد " " لأحمد " وصديقه " عماد " الذي أخرج الآثار من حقيبة قماش وكانت عبارة عن خمسة تماثيل من البرونز، وتمثال من الحجر الجيري، ومجموعة من القلادات المقطوعة" .
محمد : عاوزين كام في البيعة دى
أحمد : إنت اللي هتمن
محمد : أنا عاوز 30 ألف جنيه ربط كلام ، علشان أقولكم الحاجات دى أصلية ولا مزورة ، وبياناتها كلها
أحمد : ماشى بس احنا عاوزين عشرة ملايين دولار
محمد : ماشى بس لازم ارجع للناس الكبيرة الأول
عماد : بس لو وافقوا تيجوا تاخدوا الحاجة من دار السلام
محمد : لا طبعا , الناس دى لو دخلت دار السلام تفضحكم ، لأنهم ناس من اللي بتشوفهم في التليفزيون ، أصلاً العربيات بتاعتهم مش هتدخل الحواري المعفنة الضيقة دي ,
عماد : أمال هنخلص فين؟
محمد : فندق مثلاً
عماد : لأ , إحنا نخلص في نادي في المعادي
محمد : طب تعالوا نشوفه
خرجوا جميعا متجهين لمعاينة المكان بنادي المعادي ، وخلف النادي توقف " محمد " عند مقهى أشبه بعشة، مفتوح من كل الجهات، فقالوا لمحمد : إحنا هنخلص هنا
محمد : هـ ادرس المكان وهـ ارد عليكم
تركهم " محمد " وانصرف ، كانت الساعة التاسعة مساء ، فتوجه مسرعاً إلى شرطة الآثار بالمتحف المصري ، ليخبر الضباط بكل ما حدث ، فطلبوا منه أن يحضر في الصباح الباكر ليضعوا خطة القبض على اللصوص ، وبالفعل ذهب " محمد " صباح اليوم التالي إلى مكتب الشرطة ، واتفقوا على وضع خطة للقبض على اللصوص متلبسين ، وكانت أول خطوة في الخطة هي اتصال " محمد " " بأحمد " ليخبره أنه اتفق مع أمريكي لشراء التماثيل ، وبالفعل تم الاتصال
محمد : فيه واحد أمريكاني عارض يشترى البضاعة , ومكان التسليم في فندق سميراميس ، لأنه نازل فيه ، وفيه عربية هتيجى تاخدكم من دار السلام للفندق
أحمد : واحنا جاهزين
كان هذا اليوم السبت 12 مارس 2011 أشبه بعمل تمثيلي كبير ، بحاجة لدقة في التمثيل والإخراج ، لذلك حجزت الشرطة جناحا بالفندق ، وقامت بتأجير سيارة فارهة ، وتم الاتفاق مع سائح أمريكي يدعى "تى جى"، على تمثيل دور "ريتشارد" تاجر الآثار الذي سيشترى التماثيل ، وقد رحب تى جى الأمريكي بهذا الدور والتعاون مع الشرطة في سبيل عودة الآثار المسروقة , والقبض علي اللصوص متلبسين .
اتفق " محمد "مع " أحمد " على أن يمر عليهم في دار السلام بسيارة المشترى الأمريكي ، ثم يتوجهوا جميعاً ومعهم الآثار إلى الفندق لإتمام الصفقة ، وبالفعل ذهب " محمد " فوجد " أحمد وعماد "، فقالوا إنهم لم يحضروا معهم الآثار ، فانفعل عليهم بشدة
محمد : هو كلام عيال يعنى ، إيه التهريج ده ، أنتو كده هتودونا في داهية .
عماد : إحنا عاوزين نتعرف على الراجل الأول .
أخرج " محمد " هاتفه , واتصل بأحد ضباط الداخلية وحدثه بالإنجليزية ، قائلاً : "مستر ريتشارد" , أنا جاي و معايا " عماد وأحمد " لكن مش معانا الآثار ، هما عاوزين يتعرفوا عليك .
بعدها توجهوا جميعاً إلى الفندق الذي دخلوه بسهولة دون تفتيش ، حيث توجهوا بالسيارة إلى جراج الفندق ، وصعدوا بالمصعد إلى الدور السابع عشر ، ودخلوا الجناح ، بعد تفتيشهم على بابه من حارس " ريتشارد "، والذي كان يلعب دوره ضابط بالداخلية ، وهناك ظهرت معالم القلق على وجهي " عماد وأحمد " دون أن يعترفا بذلك ، لكن فضحتهم أعينهم الزائغة في المكان
شعر " محمد " بقلقهم , فأراد أن يطمئنهم فأخذهم في جولة بالجناح ، وفى "البلكونة" التي تطل على النيل قالوا لمحمد : لو أتقبض علينا هنا هنط من البلكونة دي
دخل " ريتشارد " إلى غرفة الاستقبال ودعاهم للجلوس معه فقالوا " لمحمد " أنهم لا يفهمونه لأنهم لا يعرفون اللغة الإنجليزية
قال لهم محمد: أنا عاوز التلت في البيعة دي أو هبوظها .
أحمد : التلت مبلغ كبير قوي
لكن " محمد " تمسك بالمبلغ فوافقوا ثم قال لهم : أنا هطلع أحسن منكم أنتو عاوزين 10 ملايين دولار صح ، ثم توجه بكلامه لمستر " ريتشارد " وقال له بالإنجليزية إحنا عاوزين 50 مليون دولار ، وهنا يقول " محمد " لاحظت الدهشة على وجوههم ، وتأكدت من أنهم يفهمون الإنجليزية ، فقال ريتشارد إنه سيفكر
عماد : إحنا عاوزين نشوف الـ50 مليون دولار، وبطاقة البودي جارد اللي فتشنا واحنا داخلين الجناح
محمد : تصدق إنتو عالم عرر وجرابيع , وانا غلطان إني بكبركم ، إنتو أول مرة تدخلوا فنادق , وطبعاً مش عارفين إن الـ 50 مليون دولار مبلغ كبير جداً مستحيل يكون في شنطة تحت السرير ، وكمان عاوزين تشوفوا بطاقة الحارس اللي جاي من شيكاغو , طبعاً مانتو مش عارفين شيكاغو ولا اللي بييجوا منها عاملين ازاي , بس انا اللي غلطان علشان اتعاملت معاكم .
استطاع " محمد " بأسلوبه أن يقنعهم بالخروج من الفندق والتوقف عن شكوكهم خاصة عندما أخبرهم أن " ريتشارد " مسافر في الصباح إلى أمريكا وأن الليلة هي فرصتهم الوحيدة لإتمام تلك الصفقة ، لهذا اتفقوا على أن يتقابلوا في العاشرة مساء في " دار السلام "، وتكون معهم الآثار لإتمام الصفقة.
سيطرت مخاوف كثيرة على " محمد " كان أولها شعوره أنه غير مؤمن من الشرطة ، كما أنه من المفترض أن يذهب ليلا إلى البيت المهجور بدار السلام لإحضار التماثيل , فلربما غدرت به العصابة , واتخذته رهينة لحين إتمام الصفقة ، فكان لابد أن يطلع ضباط الشرطة على هذه المخاوف , لكنهم أكدوا له أن حياته هي الأهم و وأنه مؤمن بشكل كامل , ثم طلبوا منه الاتصال " بعاطف " صديقه ليخبره أنهم تأخروا , و أن الأمريكي لن يتمم الصفقة , فأخبره " عاطف " أنه سوف يستعجل " أحمد " للحضور وإتمام الصفقة
وفى منتصف الليل دق هاتف " محمد " المحمول ووجد شخصاً يقول له : أنا " عرفة أمين " شريك " عماد وأحمد " ، أنا سمعت عنك كتير وسعيد إني هشتغل معاك ، وإن شاء الله مش هتكون آخر مرة ، وأنا عاوز أعرض عليك عرض ، أنت تيجى تاخد الآثار وتبيعها بمعرفتك , وتجيب لنا أي مبلغ إن شاله مليون من الخمسين .
محمد : إنت كده بتهرج وفاكرني عيل صغير ، روح دور على عيل يخيل عليه كلامك ، وأنا مش عاوز أعرفكم تاني ، وخد بالك علشان انت مش عارف أنا ورايا مين ، وعاوز أقولك إن بيعتك أصلاً خسرانة ، لأن كل الآثار اللي معاكم مسجلة ومعروفة , ومن مصلحتكم أنى أخلصها بس دغري من غير لف دوران ، فكر في كلامي كويس ، مع السلامة .
مرت ثلاثة أيام حتى يوم الأربعاء 16 مارس الساعة الثانية ظهرا ، وجد " محمد " اتصالا من" أحمد "يقول له : الحقني يا "محمد " فيه واحد اسمه "طارق العوضي " نشر على الإنترنت مواصفات البضاعة اللي معانا وفيه حاجات إحنا مش لاقينها أصلاً .
محمد : طب أهدا وأنا هـ اشوف الحكاية وهكلمك .
كان " محمد " في هذا الوقت بمكتب شرطة الآثار بالمتحف المصري ، حيث كان يذهب إلى هناك يومياً، ولم يكن يذهب لعمله بالمجلس الأعلى للآثار ، فأخبر الضباط بما حدث ، فقالوا له إن العملية يجب أن تنتهي اليوم ، وطلبوا منه الاتصال بأحمد، فأتصل به .
محمد : أيوه يا " أحمد" ، انا هستناكم أول شارع القصر العيني في عربية سودا تيجوا ومعاكم البضاعة علشان نروح بيها لمقر السفارة الأمريكية اللي بيشتغل فيها مستر "ريتشارد "ونخلص هناك ، البضاعة اللي معاكم ريحتها طلعت ولو مخلصناش فيها النهاردة مش هنعرف نخلصها ، لازم نبيعها قبل المُشترى ما يعرف أن مواصفاتها انتشرت ، اجهزوا بيها وأول ما اكلمك تجيلي على طول في المكان اللي هـ اقولك عليه .
لم يكن تقرير المتحف المصري عن القطع الأثرية المسروقة إلا من باب الصدفة ، لكنها خدمت العملية بشكل كبير .
استقل " محمد " السيارة التي أحضرها له ضباط الشرطة , وتوجهت به إلى أول شارع " القصر العيني " حسب اتفاقه مع "أحمد "، وهناك أتصل " أحمد بمحمد " وقال له إنه سيحضر خلال ساعة .
أنتظر " محمد " لمدة ساعة كاملة كان يردد خلالها الشهاد ة، فقد كان يشعر أن اللحظات القادمة ربما تحمل نهاية حياته فيكون شهيد الواجب الوطني ، أما عن الخطة المُتفق عليها مع الضباط فكانت كما يلي :
سيتوجه "محمد "ومعه أفراد العصابة إلى مبنى السفارة الأمريكية ، بشارع " سيمون بوليفار" ، وهناك ستقف السيارة تنتظر قدوم "ريتشارد" بسيارته لاستلام البضاعة، لكنه لن يأتي، فيقول لهم " محمد " إنه سيخرج من السيارة ليسأل عنه بالسفارة ، ويفتعل مُشكلة مع قوات الأمن بالسفارة ، ويُلقون القبض عليه ، ثم يخرج كمين يقبض على أفراد العصابة ومعهم الآثار ، وبهذا لا يشك أحدهم في أن " محمد " هو الذي أوقعهم في هذا الفخ .
اتجه " عماد وأحمد وعرفة أمين " إلى شارع " القصر العيني " وكانت هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها "عرفة أمين " ، وعند وصولهم طلب منهم " محمد " أن يرى الآثار ليفحصها ويتأكد أنها الأصلية، وبالفعل تأكد منها ووضعها تحت قدميه ثم اتصل بأحد الضباط وأخبره بالإنجليزية أنه قادم مع "عرفة أمين وعماد وأحمد " ومعهم الآثار .
تحركت السيارة، وتوجهوا جميعاً لميدان " سيمون بوليفار "، وهنا حدث ما لم يتوقعه " محمد "، فوجئ بمجرد وصوله لشارع السفارة الأمريكية بكمين شرطة ، فطمأن أفراد العصابة قائلاً لهم إنها حملة مرور ، ودخلوا الميدان ، وبمجرد دخولهم أغلقت الشرطة الميدان ووقفت السيارة أمام باب دبابة القوات المسلحة .
وقتها أرتبك "عماد وعرفة أمين وأحمد "، وطلبوا منه الخروج من السيارة لشراء سجائر وبمجرد أن فتحوا أبواب السيارة هجمت عليهم قوات الداخلية والقوات المسلحة ، وألقوا القبض عليهم جميعا بما فيهم " محمد "، وأخذوا حقيبة الآثار دون أن يفتحوها .
في تلك الأثناء تعامل رجال الشرطة والجيش مع " محمد "على أنه مجرم ، فلم يكن لديهم علم أن "محمد "هو المرشد عن هؤلاء المجرمين ، ولم يكن لدى هؤلاء الجنود علم بالخطة التي تم وضعها مع ضباط شرطة السياحة ، حاول " محمد " أن يشرح لهم موقفه فنهروه .
ثم قامت الشرطة بوضعهم في سيارة وتوجهوا بهم إلى المتحف المصري ، ثم جلسوا أمام بواباته الرئيسية ، وبمجرد وصولهم هناك قال أحمد : متشكرين يا محمد .
خرج الضباط الذين أتفق معهم " محمد" على الخطة من مكتب شرطة المتحف ، ورأوا " محمد " لكنهم خشوا أن يعرف المجرمين اتفاقه معهم فينتقموا منه فأشار أحد الضباط على " محمد " قائلا : خلى ده على جنب .
قام الجنود بإدخال " محمد " داخل المتحف المصري ، حيث مكتب شرطة الآثار ، كان يتوقع أن يرى من ضباط شرطة السياحة الشكر والحفاوة والتهنئة لما قام به من دور بطولي ، لكنه وجد معاملة مختلفة كانت صادمة له ، فقد وجد منهم منتهى الإهمال ، فطلب منهم متعلقاته التي أخذها منه رجال الشرطة حين تم القبض عليه , ثم قاموا بإخراجه إلى حديقة المتحف ، لكن أحد الضباط قال له : لا تخرج الآن حتى لا تستفز مشاعر العصابة ، فرجع و بقى في أحد المكاتب بالمتحف لعدة ساعات حتى أصبح المتحف خاوياً إلا من قوات الصاعقة فسألهم عن العصابة فقالوا له تم ترحيلهم إلى النيابة .
ذهب لمكتب شرطة الآثار بالمتحف فوجده مغلقاً , فطلب من الجنود أن يخرج من المتحف.
خرج " محمد "إلى ميدان التحرير فوجد الميدان خاوياً ليس به أحد فنزل إلى مترو الأنفاق ، فإذا به مغلقا فصعد مره أخرى إلى الميدان فإذا به يسمع صوتا من بعيد " أقبضوا عليه "، كان هذا الصوت لقوات الميدان الذين قبضوا عليه منذ ساعات لكنهم لا يعرفوا الحقيقة ، و للمرة الثانية يتم القبض عليه ويذهبوا به إلى المتحف مرة أخرى , وهناك سأله ضباط الصاعقة عن سبب عودته مرة أخرى فشرح لهم قصته فسمحوا له بالخروج .
خرج " محمد " إلى ميدان التحرير الخاوي تماما من المارة والسيارات حتى المحلات مغلقه ، مشى يقطع شوارع وسط البلد يبحث عن سيارة تأخذه إلى المنزل وهو مُجهد مُرتعد من مصير يجهله فقد أصبح وحيداً لا أحد يحميه .
وصل إلى المنزل وقص على والدته ما حدث وطلب منها إعداد حقيبة ملابسهما حتى يتركا المنزل ويقيما في بيت صديق له حتى تهدأ الأمور ويجد حلاً لتلك الأزمة ، فلا يمكن أن يتخلى عنه وطنه بعد هذا الدور البطولي ويصبح فريسة لهؤلاء المجرمين .
ذهب " محمد " في تلك الليلة إلى منزل أحد الأصدقاء، وأقام فيه مع والدته خوفا من أفراد العصابة وذويهم أن ينتقموا منه .
وفي اليوم التالي ذهب لضباط الداخلية الذين عمل معهم يطلب منهم حمايته ، فسألوه كيف ؟ فتوجه لرئيس قطاع الآثار المصرية بالمجلس الأعلى للآثار، وطلب منه الحماية فقال له : إن المجلس لن يستطيع حمايته ، فعاد لضباط الداخلية وطلب منهم إعطاءه ترخيص سلاح ، فقالوا له أكتب طلب ترخيص وسنوافق عليه ، لكن لن نستطيع توفير سلاح ، وستقوم بشرائه من أموالك الخاصة .
وبعد عدة أيام وتحديداً في يوم الخميس 17 مارس 2011، أستيقظ "محمد عبد الرحمن "، على صوت والدته تقول له : " قوم يا محمد شوف تعبك ومجهودك... اصح من النوم وشوف مصر بتكرمك ازاي... وشوف بهدلتنا ازاي معاك" .
هب من نومه فزعاً , ووقف متجمداً مذهولاً أمام شاشة التليفزيون الذي يبث زيارة " الدكتور عصام شرف " لوزارة الداخلية لتكريم ضباط الوزارة على الجهد الذي بذلوه لاستعادة الآثار المسروقة من المتحف المصري، والقبض على اللصوص
مشهد مهيب يحرك المشاعر، ويهز القلوب، رئيس الوزراء يكرم ضباط شرطة الآثار والسياحة لدورهم البطولي، الجميع سعيد فخور ببطولة رجال مصر، شاشات التليفزيون تبث هذا المشهد العظيم لكن أين " محمد عبد الرحمن " ؟ .
" محمد عبد الرحمن "في منزل أحد الأصدقاء هارباً من منزلة مخافة بطش أهالي المجرمين به ، لا أحد يعرف عنه شيئا ، لا أحد يشعر بخفقات قلبه المرتعد، فغالباً ما يلعب دور البطولة أشخاص ويُكرم على عظمة الدور آخرون , إلا أن البطل الحقيقي لا يُكرم لأنه يحظى بلقب "مسئول حكومي كبير"
عاش " محمد "يواجه تأنيب والدته له بسبب الخطر الذي أصبح يهدد حياتهم ، أما أصدقائه فمنهم من يقول : "مش عملت لي شريف طب اشرب بقا " وآخر يقول : " ده عصام شرف كرم بتوع الداخلية وانت محدش كرمك " وآخر يقول : " شوبير استضاف الراجل اللي كان لابس جلابية في مباراة الزمالك وانت قاعد محدش عبرك "، فباتوا يؤنبونه على دور البطولة الذي لعبه فأوقعه في شر أعماله، وكأنه هو الخاسر الوحيد لأنه أضاع فرصة كان من الممكن أن تغير مسار حياته، فالبطولة والشهامة لم تجلب له إلا الهموم والقلق حتى أنه لم يجد مقابلاً لها كلمة شكر أو حماية لحياته .
هكذا تنقلب الموازين فيصبح الشرفاء محل نقد وتوبيخ ومهانة ، كأن الشرف فعله مُشينه يُعاقبون عليها لكي لا يكرروها مرة أخرى ، لكن وسط كل هذا الألم لم يندم " محمد " على ما فعله، لم يندم لتكريم لم يحصل عليه ، أو لمكافأة لم يتقاض منها مليما واحد ، أو لمعاملة مستهينة وجدها من الضباط بعد نجاح العملية ، أو لحياته المهددة بالخطر هو ووالدته ، فما فعله " محمد " لم يكن ليفعل غيره ، لقد تصرف بطبيعته الشريفة الطاهرة ، وغيره كثيرين من الشرفاء ، لا يمكن أن يخونوا أوطانهم أو يبيعوا ضمائرهم ، لكن مع الأسف من ير حاله من ضعاف النفوس لن يفكر أن يفعل مثله .
عادت القطع المسروقة إلى المتحف بعدما سُرقت في ليلة " بكى فيها رمسيس" ، لكن ماذا سيكون رد فعل " رمسيس الثاني " عندما يشكوا له "محمد عبد الرحمن " من عدم تكريمه أو تأمين حياته بعد دوره البطولي لاستعادة الآثار ، تُرى هل سيسعد " رمسيس الثاني " ، أم سيقول للمرة الثالثة " لستم أحفادي " ، فلم تكن هذه هي مصر التي علمت العالم معنى الحق والعدل والكرامة الإنسانية، مصر التي قدس أبنائها "ماعت" أو العدالة في مصر الفرعونية .
لكن علماء الآثار والصحفيين الباحثين عن الحقيقة تحدثوا عن بطولة " محمد " ، كان أول من يتصل به هو " الدكتور زاهي حواس " ، وجه له الشكر وقال له : "حقك عندي و انا اللي هجبهولك" .
تحدث عنه ووجه له الشكر العديد من علماء الآثار عبر القنوات الفضائية، ووصفوه بأنه ابن لهم، هذا الشاب المصري الذي يعيش مع والدته في حجرتين مساحتهما 48 متر يرفض 50 ألف دولار مقابل تحديد القيمة المالية للقطع ، فضلا عن نصيبه من بيعها .
وفى أكتوبر 2011، تم تكريم " محمد عبد الرحمن " في جامعة الدول العربية من قبل الأمين العام لجامعة الدول العربية بترشيح من الإتحاد العام للأثريين العرب على ما فعله من بطولات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق